ظهر تعطش الدول الغربية للنفط لإعادة البناء والتعمير بعد أن أنهكتها الحرب العالمية الثانية، فتزايد الطلب على النفط عالمياً، ما دعا الدول المنتجة للنفط لزيادة إنتاجها، وكان التحدي الذي يواجه العالم يتمثل في قلة الناقلات والحديد التي تخدم أغراض نقل النفط، وكانت شركة أرامكو صاحبة امتياز النفط السعودي تفكر بأفضل الطرق المجدية اقتصادياً التي توفر عليها الوقت والجهد والمال، لنقل النفط من شرق المملكة إلى الدول المستهلكة، فتفتقت أذهان مهندسيها عن فكرة إنشاء خط أنابيب بري يتم تصدير النفط خلاله، يمتد من حقول إنتاجه الغنية شرق المملكة على ساحل الخليج العربي لينتهي على ساحل البحر الأبيض المتوسط لتنهل منه الناقلات على اختلاف أحجامها لإيصاله إلى الأسواق العالمية.
جاء أول ذكر لهذا المشروع الجبار في خطاب ف.أ.ديفيز نائب رئيس شركة أرامكو الموجه إلى وزارة خارجية الولايات المتحدة الأمريكية في ذي الحجة 1362هـ/ ديسمبر 1943م، يطلب فيه السماح بإنشاء خط أنابيب لنقل النفط السعودي الذي سيخدم الولايات المتحدة الأمريكية ومشروعها في إعادة الإعمار لدول غرب أوروبا وإنعاش اقتصادها المنهك من الحرب، والذي يعرف بـ(مشروع مارشال)، فقامت الخارجية بعرض الطلب على وزارتي البحرية والحربية اللتين أيدتا الطلب، واُقترح أن تقوم الحكومة الأمريكية بإنشاء الخط وتملكه، وقد وافقت أرامكو على هذا المقترح، فباشرت العمل بإجراء الأبحاث التمهيدية والدراسات اللازمة، التي دامت نحو 20 شهراً، عرضت فيها كل الخيارات المتاحة والظروف الموائمة التي تضمن نجاحه. أما موقف المملكة من هذا المشروع فظهر عندما تقابل الرئيس الأمريكي روزفلت مع الملك عبدالعزيز -رحمه الله- على ظهر الطراد الأمريكي كوينسي في البحيرات المرة في مصر عام 1364هـ/1945م، حيث عرض روزفلت على الملك عبدالعزيز فكرة إنشاء الخط، الذي لم يعارض فكرته لكنه اعترض على ملكية الحكومة الأمريكية له، وطلب أن يقوم المشروع بعيداً عن الصفة الرسمية الحكومية، وهذا يعكس سياسة جلالته الرامية إلى الابتعاد عن النفوذ السياسي الأجنبي الذي يحمل الطابع الرسمي بعيداً عن التعقيدات.
تأسيس شركة التابلاين
ألفت الشركات الأربع المكونة لأرامكو شركة عرفت باسم (Trans Arabian Pipeline) لتقوم بأعباء الخط وتشغيله واسمها بالعربية (شركة خط الأنابيب عبر البلاد العربية) وتسمى اختصاراً (التابلاين Tapline)، وكان تأسيسها عام 1945م في ولاية ديليوير الأمريكية، وهي ذات الولاية التي تأسست فيها الشركة الأم (أرامكو).
اتفاقية التابلاين
بعد المفاوضات التي أجريت بين شركة التابلاين والحكومة السعودية، تم توقيع الاتفاقيــــــــــــة في 22 / 8 / 1366هـ الموافــــــــق 11 / 7 / 1947م، وقع عليها وزير المالية عبدالله الحمدان نيابة عن الملك عبدالعزيز، والسيد وليم.ج.لنهان بالنيابة عن الشركة.
الجدوى من خط التابلاين
بحكم أن الهدف من إنشاء مشروع خط التابلاين هو اقتصادي بحت بالدرجة الأولى، فلم يكن غرضه فقط نقل النفط للأسواق العالمية في الدول المستهلكة له، وإنما ليكون بأقل كلفة اقتصادية واختصاراً للمسافات لينافس الناقلات، لذا يتطلب الأمر العمل على هذا المبدأ، فخط التابلاين يختصر المسافة الطويلة التي تقطعها الناقلات في اتجاه واحد، والتي تصل لنحو 6 آلاف كلم، وتستغرق زمناً يقارب 10 أيام، بدأ من ميناء رأس تنورة على الخليج العربي، مروراً حول شبه الجزيرة العربية، عابراً مضيق هرمز تجاه بحر العرب، فالبحر الأحمر عبر مضيق باب المندب، ثم البحر الأبيض المتوسط عبر قناة السويس التي ارتفعت رسوم الناقلات المارة فيها إلى ما يزيد على 30 ألف دولار للناقلة الواحدة حتى تصل إلى الأسواق المستهلكة غرب أوروبا.
ومن مزايا النقل عبر خطوط الأنابيب:
1 – انخفاض تكلفة النقل بواسطتها مقارنة بتكاليف النقل بوسائل أخرى آنذاك.
2 – استمرارية تدفق النفط عبرها، إذ لا حاجة للعودة فارغة كما هو الحال في الناقلات.
3 – أنها من وسائل النقل الثابتة التي لا تحتاج لكثير من الطاقة إلا بتشغيل المحطات فقط.
4 – تختصر المسافات، ولا تحتاج لكثير من المساحات، إذ لا يلزمها سوى شريط ضيق من الأرض.
5 – انخفاض نسبة الفاقد أو التالف أثناء النقل.
6 – تعد أقل في التكاليف المالية، إذ لا تتطلب إلا عدداً قليلاً من الأيدي العاملة خصوصاً عند التشغيل.
7 – قلة تأثرها بالظروف الجوية.
8 – أن عملها مستقر ومستمر، مما يؤمن للمنشآت والمرافق الصناعية المرتبطة بها استمرارية العمل بكامل طاقتها.
9 – سهولة تطبيق مستوى عال من التحكم والمراقبة.
10 – تعزز القدرات الأمنية في السلم والحرب. (الرسالة 63).
معلومات مرتبطة بمشروع التابلاين
بلغت تكاليف إنشائه 230 مليون دولار، وكان أطول خط أنابيب في العالم بطول 1200 كلم، من القيصومة وحتى صيدا على البحر المتوسط، وقبل القيصومة هناك وصلة من خطوط الأنابيب بطول 500 كلم تربط حقول أرامكو في المنطقة الشرقية بخط التابلاين عندها.
استخدم في المشروع ما يزيد على 200 ألف قطعة من الأنابيب الفولاذية التي يبلغ طول كل قطعة منها 9م، ومقاس أقطارها 76 و78 سم مما سهل عملية نقلها عند الشحن حيث أدخلت الأنابيب ذات الأقطار الصغيرة بالأنابيب ذات الأقطار الكبيرة.
جندت التابلاين للعمل في الخط الذي أقامته 1100 شخص، 90 % منهم تقريباً من الأقطار التي يمر فيها الخط بما فيها المملكة، دربتهم الشركة للاضطلاع بأعباء الوظائف التي يمارسونها وعددها 330 حرفة ومهنة من مختلف أنواع الأعمال. كما قامت التابلاين بتدريب نسبة كبيرة من هؤلاء الموظفين تمهيداً لترفيعهم إلى مناصب أعلى كلما دعت الحاجة إلى ذلك.
أطوال خط أنابيب التابلاين عبر الدول الأربع التي يمر بها:
الدولية | الطول (كلم) | النسبة |
السعودية | 860 | % 71 |
الأردن | 185 | % 15 |
سوريا | 127 | % 11 |
لبنان | 41 | % 3 |
الإجمالي | 1213 | 100 % |
يصف أحد رؤساء فرق العمل خلال بناء الخط، ظروف العمل قائلاً: حين بدأ الحفر في آبار الماء ضمن مشروع التابلاين في سبتمبر 1947م، كان فريق العمل يتألف من نحو ثمانية غربيين وحفارين ومكانيكيين، ونحو عشرين سعودياً، ولما لم تكن لدينا أية خيام، كنا نستخدم الكراسي القماشية القابلة للطي للنوم عليها في العراء، وكنا نستخدم أدوات لتعليق أحذيتنا وملابسنا كي لا تدخلها العقارب، وبعد دخول موسم الأمطار أبلغنا الإدارة بالجهاز اللاسلكي لطلب المواد التي نحتاجها، وليس لدينا خيام، فأرسلت الشركة بطلب خيام من القاهرة. نال العمال السعوديون حصتهم من الخيام، فأعطينا خيمة لكل أربعة سعوديين، أما نحن فكان لكل منا خيمة خاصة. لكن العمال السعوديين كانوا ينامون كل ثمانية في خيمة، ويستخدمون الخيم الأخرى للاستراحة وتناول القهوة والشاي والطعام. (مكموري)
وفي عام 1370هـ/1950م اكتمل العمل بخط التابلاين، وحملت أول ناقلة بحرية النفط من مصبه في ميناء الزهراني بصيدا في لبنان في 21 / 2 / 1370 الموافق 2 / 12 /1950م.
بنات التابلاين
فضلاً عن الدور الذي قامت به شركة خط الأنابيب عبر البلاد العربية (التابلاين) في توفير وسيلة فريدة بتشييد أطول خط عالمي لنقل النفط ، إلا أن أعظم أثر لها هو ولادة مراكز سكانية جديدة، فعندما بدأت الشركة في التخطيط لبناء خط أنابيب التابلاين والذي يمتد على مسافة تزيد على 1200 كلم من شرقي المملكة مروراً بشمالها فالأردن ثم سوريا وانتهاء في ميناء الزهراني في صيدا بلبنان، تدرك تماماً أنه لا يمكن أن ينساب النفط عبر الأنابيب بسرعة واحدة، بسبب طول المسافة التي يقطعها، فتحتم عليها إنشاء محطات ضخ لتقوية جريان النفط عبر الأنابيب، وقد حددت أربعة مواقع في شمال المملكة لبناء محطات رئيسة بالقرب من حدودها المشتركة مع العراق والأردن، بدءاً من محطة القيصومة نقطة انطلاق الخط، ثم إلى محطة رفحاء، ثم محطة بدنة (عرعر)، ثم محطة طريف آخر محطات الخط في المملكة. وقد نشأت مدن القيصومة ورفحاء وعرعر وطريف بجوار هذه المحطات مساهمة بحدوث تحولات اجتماعية كبرى إذ حولت هذه المجتمعات من مجتمعات رعوية إلى قروية فمدنية.
نهاية خط التابلاين
بقي خط التابلاين جزءاً حيوياً لنقل النفط من حقوله شرقي المملكة وحتى ساحل البحر الأبيض المتوسط، غير أن التقدم التكنولوجي في بناء ناقلات نفط عملاقة وانخفاض تكاليف النقل البحري مع ظهور التوترات السياسية بالمنطقة أثر على المزايا الاقتصادية لخط التابلاين، فقررت شركة التابلاين إغلاق الخط عام 1975م على إثر الحرب الأهلية اللبنانية، وبحلول عام 1983م توقف تدفق النفط عبر الخط إلى صيدا، في حين استمر نقل كميات بسيطة منه إلى مصفاة الزرقاء في الأردن لكنها توقفت أيضاً إثر اندلاع حرب الخليج عام 1990م.
المراجع:
1. المطلق ماجد، العنزي مطر (1441) التابلاين ودوره التنموي في منطقة الحدود الشمالية، النادي الأدبي الثقافي بالحدود الشمالية عرعر.
2. العنزي، مطر عايد (1428) الحدود الشمالية ماضيها وحاضرها، رفحاء.
3. العنزي، سعد عايض (1429) المملكة العربية السعودية وشركة أرامكو، الجمعية التاريخية السعودية، الرياض.
4. لعبون، عبدالعزيز عبدالله (1423) اتفاقيات النفط والمعادن في المملكة العربية السعودية، مكتبة الملك عبدالعزيز العامة الرياض.
5. مكموري سكوت (2012)، إمداد العالم بالطاقة قصة أرامكو السعودية ج2 شركة خدمات أرامكو، هيوستن.
6. موسوعة المملكة العربية السعودية (1428) المجلد 18 منطقة الحدود الشمالية، مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، الرياض.
التقارير عبر أراض عريقة في القدم. التابلاين طريق تجاري عصري من الصلب (1964) قسم النشر في أرامكو
This Post Has 0 Comments